/ الفَائِدَةُ : (66) /
23/04/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. /أَهِمِّيَّةُ ضبط حدود المعاني والْمُدْرَكَات والحقائق/ إِنَّ مَنْ لا يضبط حدود المعاني والْمُدْرَكَات فستنشئ لديه اِستدلالات واِستنتاجات مقلوبة وخاطئة. وَلَكَ أَنْ تقول : إِنَّ العقل بعدما لا يمكنه إِدراك الحقائق والموجودات مِنْ دون توسُّط أَحد أَدوات الحِسِّ ـ وَمِنْ ثَمَّ قيل : «من فقد حِسّاً فَقَدْ فَقَدَ عِلْماً» ـ ؛ وحيث إِنَّ أَدوات الحِسّ في عُرْضَةِ الخطأ والاِشتباه كان إِدْرَاك الحقائق لديه في عُرْضَةِ الخطأ والاِشتباه أَيضاً . وبالجملة : أَنَّ ضبط المعاني(1) والحقائق والواقعيات(2) وضبط حدودها بشكلٍ غير متناهٍ لا تكون إِلَّا بيد المعصوم عليه السلام (3). وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الموجودات الذهنيَّة وما يأخذه الذهن وما يُدْرِكَه من التَّحقُّق الخارجي وجودات حقيقيَّة ، لكن قوامها أَنَّها حاكية عن الخارج حكاية صدق . (2) يجدر الاِلتفات في المقام إِلى القضايا التَّالية : القضيَّة الأُولَىٰ : / الأَصالة للحقيقة ، والوجود ظهور لها/ إِنَّ الأَصالة هي للحقيقة والواقعيَّة ، والوجود ظهور للحقيقة والواقعيَّة وليس عينها . وتترتَّب علىٰ هذه القضيَّة في أَبحاث المعارف والعقائد آثار كثيرة وكبيرة ومهمَّة جِدّاً . /خطورة مبحث أَصالة الواقعيَّة أَو الوجود أَو الماهيَّة/ وبعبارة أُخرىٰ : أَنَّ مبحث أَصالة الواقعيَّة والحقيقة أَو الوجود أَو الماهية له زوايا عديدة وكثيرة صعبة ومُعَقَّدَة ، ولا يُستوفىٰ بحثها في موطنٍ واحدٍ ، بل مواطن عديدة . وهذا مبحثٌ مُهمٌّ وخطيرٌ في مباحث عديدة من أَبواب المعارف ، بل له صِلَة وطيدة بأَخطر مباحث التَّوحيد علىٰ الإِطلاق ، بل وأَعقدها ، شبيه بمبحث نفي الجبر والتفويض . /الأَصالة للواقعيَّة والوجود والماهيَّة تجليَّات لها في عَالَم الذِّهن/ والمُختار : أَنَّ الأَصل ليس هو الوجود والموجود أَو الماهيَّة ، وإِنَّما هو الحقيقة والواقعيَّة ، والوجود والموجود والماهيَّة ليست إِلَّا تجلِّیات وظهورات ترتبط بالإِدْرَاك الذهني ، وخُلِطَت ـ هذه الثلاثة ـ بتلاوين الذهن مع الخارج ؛ فوَجْدُ الشيء إِدْرَاكة . إِذَنْ : شأن الوجود شأن المعنىٰ والمفهوم ، ومن الواضح أَنَّ الَّذي يأتي للذهن من الحقيقة الخارجيَّة حصَّة من العين الخارجيَّة ، وهي الَّتي يُطلق عليها عنوان : (وجود وموجود) ، لا أَنَّ الآتي إِلى الذهن جملة العين الخارجيَّة بما لها من وِسْعٍ ، ومن ثَمَّ لابُدَّ أَنْ يكون الأَصيل في العين هو حقيقتها وواقعيَّتها دون وجودها . وعليه : فحصر الحقيقة والواقعيَّة والعينيَّة الخارجيَّة وحَدِّها بالوجود والموجود غفلة معرفيَّة خطيرة جِدّاً ؛ وقع في ورطتها من ذهب إِلى أَصالة الوجود . والحقُّ : أَنَّ الأَصالة للحقيقة والواقعيَّة أَعَمُّ من الوقوف والاِلتفات إِليها أَو عدم ذلك . /خطورة الخلط بين أَحكام الذِّهن والعين الخارجيَّة/ ثُمَّ إِنَّ الخلط بين أَحكام الذِّهن والعين الخارجيَّة من أَخطر المخاطر بصحَّة وسَدَاد المعرفة في العلوم العقليَّة ، وهذا ما أَكَّدت وشدَّدت عليه بيانات الوحي ؛ وأَنَّه يجب على ٰالمؤمن والمسلم والباحث والمُستنبِط أَنْ لا يسحب الأَحْكَام الذهنيَّة إِلى العين الخارجيَّة . القضيَّة الثَّانية : /إِرَاءة الحقيقة والوصول إِليها علىٰ مراتب/ إِنَّ ما ورد في بيان قوله تعالىٰ ـ الحاكي لأَحداث معركة بدر الكُبرىٰ ـ : [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأَنفال: 44] برهانٌ وحيانيٌّ دالٌّ علىٰ نُكَتٍ عجيبةٍ ودقيقةٍ في المعرفة والمعارف ، ودرجات الاِطِّلاع علىٰ الحقيقة والواقعيَّة ؛ فإِنَّ الإِرَاءة في المقام وقعت علىٰ بعض الجُنْد وإِمكانيَّاتهم ، وكشفت عن جزء الحقيقة ومرتبةٍ من مراتبها . ومنه يتَّضح : مدىٰ الفرق الشَّاسع بين ما يطرحه الوحي الشَّريف وما يطرحه أَصْحَابُ المدارس الْبشريَّة الْمَعْرِفِيَّة ـ كالفلاسفة والماديِّين والغربيِّين ـ من نِسْبَةٍ ؛ فإِنَّهم ذهبوا : إِلى أَنَّ الإِنسان قد يصل إِلى الحقيقة بنِسْبَةٍ ما ، وقد لا يصل أَصلاً ، فالنِّسْبَة عندهم تدور بين الحقيقة والسَّرَاب ، ومعناه : عدم اِسْتِقْرَار معرفة لدىٰ الإِنسان ، بخلافها لدىٰ الوحي ، فإِنَّ النِّسْبَة لديه هي : أَنَّ إِرَاءة الحقيقة والوصول إِليها علىٰ مراتبٍ ودرجاتٍ . وليس في هذا نحو سفسطة أَو تشكيك ، بل حَذَرٌ وفِطْنَةٌ ، فلا يحسب الواقف علىٰ حقيقةٍ أَنَّها تمام الحقيقة ، بل بعضها ، ومشمول ببیان قوله تقدَّس ذكره : [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ، وبيان قوله عزَّ ذكره : [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . ومنه يتَّضح : أَنَّ جملة من المباحث الأَساسيَّة في أَبواب المعارف تتولَّد من هذا المبحث ، منها : أَسرار البَدَاء ؛ فإِنَّها تكمن في هذا المطلب ؛ فإِنَّ يد الغيب الإِلٰهيَّة قد لا تُري للمخلوق جملة الحقيقة وسائر التفاصيل ، فإِذا كشفت بعد ذلك عن مراتبٍ أُخرىٰ لتلك الحقيقة والتَّفاصيل تداعىٰ إِلى وهمه : عدم تحقُّق ما أُخبر به سابقاً . القضيَّة الثَّالثة : /واقعيَّة العَرَض في إِظْهَار شؤون الجوهر/ إِنَّ للعَرَضِ واقعيَّةً ، لكن تمام واقعيَّته تكمن في تجلِّي وإِظْهَار شؤون الجوهر . (2) ينبغي صرف النظر في المقام إِلى التَّنبيهات التَّالية : التَّنبيه الأَوَّل : /رؤية المعصوم عليه السلام للواقع في منامه أَعظم من رؤيته في اليقظة/ إِنَّ منافذ رؤية الواقع لدىٰ المعصوم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في المنام أَعظم من رؤيته عليه السلام في اليقظة من خلال الحِسّ ؛ لأَنَّ الرؤية الحِسِّيَّة لا تُحيط بجملة الزوايا الِحسِّيَّة فضلاً عن غيرها . ومنه تتَّضح : نُكْتَة مضمون ما ورد مراراً في بيانات أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «إِنِّي أَيقن بما قاله لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ممَّا أشاهده» ؛ فإِنَّ رؤية الحِسّ لا تحيط بجميع الزوايا الحِسِّيَّة ، ولو فرض إِحَاطتها كانت تُحيط بالسَّطح والظَّاهر ؛ دون الباطن وتمام الواقع ، بخلاف كلام سيِّد الأَنبياء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ فإِنَّه وحيٌ تُحيطُ بالسَّطح والظَّاهر والباطن وتمام الواقع، ومن ثَمَّ يرىٰ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ من خلاله جميع الزوايا ظاهرها وباطنها وتمام واقعها . التَّنبيه الثَّاني : /المخلوق سجين الطَّبَقَة الَّتي يعيش فيها/ إِنَّ طبيعة الإِنسان ، بل مُطلق المخلوقات تعيش في الطَّبَقَة الوجوديَّة الَّتي تعيش فيها ، ومن ثَمَّ لا يَدْرِك المخلوق بدِقَّةٍ ما وراء تلك الطَّبَقَة ؛ فلذا يُقال : «نحن البشر سجناء الحِسِّ» . التَّنبيه الثَّالث : /تطهير النَّفس أَحَد الشرائط المهُمَّة لتحصيل المعرفة الحقَّة/ إِنَّ ما ورد في بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان قوله تعالىٰ : [وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . 2ـ بيان قوله سبحانه وتعالىٰ : [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . براهينٌ وحيانيَّةٌ إِرشاديَّةٌ لشرطٍ مُهمّ من شرائط التَّعَلُّم وتحصيل المعرفة الحَقَّة الإِلٰهيَّة ، وهو : (التقوىٰ والرِّياضة الرُّوحيَّة ومجاهدة النَّفس) ؛ فَمَنْ يبغي طلب المعرفة الحقَّة بشكل أَكبر فعليه ممارسة التَّقوىٰ ، وتطهير نفسه وطبقات ذاته من الرَّذائل ـ كحال الصَّلاة ؛ فعلىٰ مَنْ يُريد ممارستها التَّطهير والتَّطهُّر أَوَّلاً ـ . /الأَخذ عن أَهل البيت عليهم السلام شرط مهمّ آخر لتحصيل تلك المعرفة/ لكن : مَنْ يحصر طلب المعرفة الحَقَّة الإِلٰهيَّة بهذا الشَّرط فقد خادع نفسه ، فإِنَّ هناك شرطاً مُهمّاً آخر ، وهو ما أَشارت إِليه بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : بيان قوله تعالٰى ذكره : [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . فلكي يَتعلَّم المخلوق ويحتوي معرفةً حقَّةً إِلٰهيَّة ، ويكتسب علوم الوحي لا بُدَّ له بالضَّرورة من العكوف علىٰ أَبواب أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ المعرفيَّة ؛ لتحصيل علومهم عليه السلام ومعارفهم الإِلٰهيَّة . التَّنبيه الرَّابع : /اللَّون الإِلٰهيّ ينبغي أَنْ يكون هو السَّائد في ساحة ذات المؤمن/ إِنَّ ما ورد في بيان زيارة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... وَأَشهَدُ أَنَّكَ لَمْ تَزَل للهَوَى مُخالِفاً ، وللتُّقَىٰ مُحالِفاً ، وعلىٰ كظم الغيظ قادراً ، وعن النَّاس عافياً غافراً ، وإِذا عُصِيَ اللهُ ساخطاً ، وإِذا أُطيع الله راضياً...» [بحار الأَنوار، 97: 361] برهانٌ وحيانيٌّ دالٌّ علىٰ أَنَّه ينبغي للمؤمن في خِضَمِّ التَّجاذبات مع العدو وغيره أَنْ لا تطغىٰ عليه ذاتيَّاته ، فلیمت وهو مثابرٌ ومجاهدٌ في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ ، سوآء كان في سوح الجهاد : العسكري أَو السياسي أَو الِاقتصادي أَو المجتمعي أَو العلمي أَو الدِّيني أَو غيرها ، وعليه أَنْ لا ينسىٰ أَو يتناسىٰ ـ بسبب طغيان ثوران ذاتيَّات نفسه ـ أَنَّه في اِتِّجاه وجهة الله سبحانه وتعالىٰ ، فذاك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حينما تجاسر عليه ـ والعياذ باللّٰـه تعالىٰ ـ عمرو بن ود العامري تريَّث في قتله ؛ كيما لا يكون القتل مُنبعثاً عن ذاته المُقدَّسة . وهذا نحو تجاذب الفضائل ، ففي حين أَنَّه يجب علىٰ المؤمن أَنْ لا يترك ساحة المجابهة يجب عليه أَيضاً أَنْ يُبقي اللُّون الإِلٰهيّ هو السَّائد في ساحة ذاته ، ولا ينصاع إِلى رغباتها ورغبات نفسه